في هذا المنهج التفسيري الذي يسمّيه بعضهم التفسير بالرأي نقف عند تفسيرين هما: التفسير الكبير للفخر الرازي، وجوامع الجامع للطبرسي.
والمنهج العقلي في التفسير تمتد جذوره الحقيقية إلى عهد الصحابة، ومن بعدهم من التابعين، حيث كانت آراؤهم في الواقع النواة الأولى لتشكيل هذا المنهج، ثم تطور هذا
التفسير فيما بعد، وبلغ مبلغا خاصا على يد المعتزلة وبعض مفسري الشيعة كالشريفين الرضي(ت 406 هـ) والمرتضى(ت 436هـ) في كتابيهما(حقائق التأويل) و(غرر الفرائد ودرر القلائد) ثم مضى يشق طريقه إلى عصر الزمخشري(ت 538 هـ) وفخر الدين الرازي(ت 606 هـ)، ومن جاء بعدهما حتى يومنا هذا.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن مشروعية هذا التفسير أو عدم مشروعيته، بل إن موقفنا من تقويم أي تفسير من هذا النوع يقوم على أساس التزام المفسر بالشروط المحددة للتفسير العقلي، لا على أساس عقيدة المفسر ومذهبه في الأصول، كما فعل الذهبي في(التفسير والمفسرون) حيث قسم التفسير بالرأي إلى ممدوح وجعل فيه تفسير الأشاعرة، والى مذموم وضمنة تفسير المعتزلة والشيعة في الدرجة الأولى، بحجة أنهم أقاموا تفسيرهم على أصول فكرية تخالف الأصول الفكرية للأشاعرة.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها: أن التفسير العقلي ضرورة تمليها الظروف الفكرية والاجتماعية والساسية للامة الإسلاميّة، إضافة إلى أنه وجود طبيعي في كيان الأمة، تقتضيه سنة التطور في الحياة.
وقد احتفظت لنا المكتبة الإسلاميّة بكتابين يرجعان إلى القرن السادس الهجري، ضمن خطة خراسان ـ موضع البحث ـ يقومان على أساس التفسير بالرأي هما:(جوامع الجامع) للطبرسي(ت 548 هـ) و(التفسير الكبير) للفخر الرازي.
وقد آثرنا اعتبار الفخر الرازي ضمن القرن السادس الهجري، لأنه عاش معظم حياته العلمية في هذا القرن، وإن كانت وفاته في أوائل القرن السابع.
وهناك تفاسير، عاش أصحابها في القرن السادس الهجري، لم يتضح لنا بصورة دقيقة
البقعة الجغرافية التي عاشها مؤلفوها. هل هي خراسان أو غيرها؟ ومن هذه التفاسير(روض الجنان وروح الجنان) للشيخ أبي الفتوح الرازي، و(متشابه القرآن ومختلفة) للشيخ رشيد الدين بن شهرآشوب(ت 588 هـ) و(قصص الأنبياء) للقطب الراوندي(ت 573) المدفون بقم.
وبناء على هذا، فإن دراستنا تقتصر على بحث كتابين هما:(جوامع الجامع) و(التفسير الكبير).
ويمثل الكتابان وجهتي نظر مختلفتين. فبينما يمثل الفخر الرازي قمة التفسير بالرأي، على أساس مذهب الأشاعرة، يمثل(جوامع الجامع) وجهة النظر الأخرى في التفسير، إضافة إلى أن تفسير الفخر الرازي يمثل التفسير المبسوط، الذي لم يترك مؤلفه مسألة وصل علمها إليه لم يذكرها فيه أما(جوامع الجامع) فإنه يمثل تفسيرا مختصرا بالنسبة إلى التفسير الكبير، وإذا أضيف إلى هذا أن الشيخ الطبرسي ينتمي إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام بينما ينتمي الفخر الرازي إلى مذهب أهل السنة، أمكن تصور المنطلقين في التفسير.
عرف أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني، المشهور بالفخر الرازي، المتوفى سنة(606هـ) بمناظراته وسعة باعه في علم الجدل والمناظرة والكلام. وقد كتب تفسيرا للقرآن الكريم سمّي بـ(مفاتح الغيب) واشتهر بالتفسير الكبير أو تفسير الرازي. وقد ذكر أصحاب التراجم أنه لم يتمه، بل وصل فيه إلى سورة الأنبياء على قول، ثم اختلف في اسم من أتمه. لذا آثرنا ـ التزاما لجانب الحقيقة والحيطة في نسبة الآراء إلى الرازي ـ
الاكتفاء بدراسة التفسير في سوره الأولى لكي لا نقع في نسبة ما لم يقله إليه.
وقد كنت أراجع هذا التفسير كثيرا، بحكم تدريسي علوم القرآن، وتاريخ التفسير لعدة سنين؛ فاستخرجت منه ما أود أن أضعه في متناول أيدي الدارسين:
1 ـ يعد تفسير الفخر الرازي تفسيرا جامعا، لأنه تعرض إلى مباحث اللغة والإعراب والقراءة والبيان والكلام والأصول والفقه وغيرها؛ فأشبع في كل واحد منها القول، ولكنه لا يعقد مباحثه ـ كما علمنا الطبرسي ـ على شكل مباحث يعنون كل منها بعنوان يناسب البحث، بل يعقد لكل موضوع يريد بحثه مسألة.
2 ـ يحاول الفخر الرازي استقصاء الموضوع الذي يبحثه، فيتتبع شوارده، ويتعمق فيه بنحو يخرجه عن كونه تفسيرا يذكر فيه هذه المباحث لخدمة التفسير وتوضيح المراد، بل يجعله في بعض الموارد كتابا اكثر تخصصا من الكتب الخاصة بالموضوع. وللاستدلال على ما نقوله نسوق النص التالي: ففي قوله تعالى: ] إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون[(1). مسائل نحوية، ومسائل أصولية، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى، أما قوله(إنّ) ففيه مسائل:
(المسألة الأولى) إعلم أنّ(إنّ) حرف والحرف لا أصل له في العمل، لكن هذا الحرف أشبه الفعل صورة ومعنى، وتلك المشابهة تقتضي كونها عاملة، وفيه مقدمات(المقدمة الأولى) في بيان المشابهة، واعلم أن هذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى؛ أما في اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال، ويدخلها نون الوقاية نحو إنني وكأنني، كما يدخل على الفعل نحو: أعطاني وأكرمني. وأما المعنى فلأنها تفيد
حصول معنى الاسم وهو تأكد موصوفيته بالخبر، كما أنك إذا قلت: قام زيد، فقولك قام أفاد حصول معنى في الاسم.(المقدمة الثانية) إنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل وذلك ظاهر بناء على الدوران(المقدمة الثالثة) في أنها لِمَ نصبت الاسم ورفعت الخبر؟ وتقريره أن يقال: إنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ والخبر معا، أو تنصبهما معا، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر وبالعكس. والأول باطل، لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول(إنّ) عليهما مرفوعين، فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر البتة، ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الاسمين فلا معنى للاشتراك والفرع لا يكون أقوى من الأصل. والقسم الثاني أيضاً باطل، لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه. والقسم الثالث أيضاً باطل، لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع، فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أوّلا بالرفع ثم في المفعول بالنصب، فلو جعل الحرف ههنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع.
ولمّا بطلت الأقسام الثلاثة تعين القسم الرابع: وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر، وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصلية لأن تقديم المنصوب على الموضوع في باب الفعل عدول عن الأصل فذلك يدل ههنا على أن العمل لهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض)(1).
فأنت ترى أن الكتب المختصة بالنحو كشرح ابن عقيل، والبهجة المرضية للسيوطي، وأوضح المسالك لابن هشام، ومغني اللبيب له أيضاً، وعشرات غيرها من كتب النحو لم تذكر ما ذكره الرازي في تفسيره، فهل كتابه أكثر تخصصا من كتبهم؟ وهل هناك حاجة ملحة لذكر كل هذا؟
إن هذا النص بطوله وإسهابه هو أحد نصين ذكرهما الرازي في(إنّ) وفي الحقيقة هذا النص أقصر من النص الثاني الذي ذكره، وذكر فيه اختلاف البصريين والكوفيين في رافع الخبر بعد(إنّ) ودليل كل فريق، وتوجيه كل دليل بنحو قلما يوجد في كتب المطولات النحوية، بل لم أجده في كتاب(الإنصاف في مسائل الخلاف) للأنباري الذي أورد هذه المسألة مع ذكر أدلة كل طرف.
3 ـ تطغى المباحث الكلامية في تفسير الرازي على غيرها من المباحث حتى يخيل إلى القارئ أنه كتاب جدل ومناظرة وكلام، لا كتاب تفسير؛ يشير مؤلفه عند الحاجة إلى بعض المباحث إشارة توضح النص القرآني، وتلقي عليه ضوءا يفتح أمام القارئ آفاقا رحبة لفهم النص وتذوقه.
صحيح أن الرازي ينتمي إلى المذهب الأشعري في الأصول، وينصب نفسه مدافعا عن مذهب السلف في مقابل مذهب المعتزلة والشيعة، ويحاول تفسير القرآن الكريم بنحو يقرر فيه أقوال الأشاعرة وآراءهم، ويرد المعتزلة وغيرهم، ولكن هذا لا يبرر جعل كتابه كتابا كلاميا يذكر فيه التفسير على هامش بحوثه الأخرى حتى قيل فيه:(فيه كل شيء إلاّ التفسير).
ومن يطالع تفسير الرازي تلفت نظره عبارة(أصحابنا) و(أهل السنة) وبالمقابل(المعتزلة) و(القدرية) فعند تفسيره قوله تعالى: ]قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون[(1).
قال:(المسألة الثانية: أحتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى فإن عند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك فقد أراد
اهتداءهم لا محالة وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء الله فائدة. أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولنا إن شاء الله فائدة.
المسألة الثالثة: احتجت المعتزلة على أن مشيئة الله تعالى محدثة بقوله(إن شاء الله) من وجهين: الأول: أن دخول كلمة(إن) عليه يقتضي الحدوث. والثاني: وهو أنه تعالى علق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء، فلما لم يكن حصول الاهتداء أزليا وجب أن لا تكون مشيئة الاهتداء أزلية)(1).
وفي مبحث الاستعاذة ذكر قول المعتزلة في الاستناد إلى الاستعاذة في رد مذهب الجبر، وذكر ستة أدلة للمعتزلة في ذلك، ثم عقب عليها بذكر رد أهل السنة على هذه الأدلة ثم ذكر أدلتهم في الاستفادة من الاستعاذة في رد مذهب القدرية(المعتزلة) فأورد خمسة أوجه(2).
ومن أراد مزيدا فليراجع التفسير، فإني لا أكون مبالغا إذا قلت: إنه لا تكاد تمر بضع صفحات إلاّ ويذكر الرازي مبحثا كلاميا أو أصوليا، وأكثر هذه البحوث تستغرق صفحات متعددة، يصل بعضها إلى ست صفحات من القطع الكبير، ويزيد بعضها على ذلك، وقد تطول بحوث تفسير بعض الآيات نتيجة ذلك، فقوله تعالى: ]وعلم آدم الأسماء كلها...[(3).
استغرق تفسيرها أربعا وثلاثين صفحة، أكثر بحوثها جانبية(4).
ويبدو أن الرازي بعد كل هذا البحث في الجبر والتفويض لم يخرج برأي دقيق يحكم به، بدليل قوله:(ويحكى أن الامام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال: لا، لأنهم نزهوه، فسئل عن أهل السنة فقال: لا، لأنهم عظموه، والمعنى أن كلا الفريقين
ما طلب إلاّ إثبات جلال الله وعلو كبريائه، إلاّ أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة فقالوا: ينبغي أن يكون هو الموجد، ولا موجد سواه. والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة فقالوا: لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول: هاهنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح؛ وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدرة. بل هاهنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة.. فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين)(1).
4 ـ ومن مظاهر إطالة الرازي في تفسيره، استطراده في ذكر أمور هو في غنى عنها، ولا ارتباط لها بالموضوع، وكان يمكنه ذكرها بصورة مختصرة إن كان لابد من ذكرها. فلا ملامة على من يسأل عن حكمة ذكر الرازي سؤال الكندي الفيلسوف أبا العباس المبرد عن الفرق بين(عبدُ الله قائم) و(إن عبدَ الله قائم) و(إن عبدَ الله لقائم) وجواب المبرد والإطالة في ذلك(2).
ومن يطالع ما ذكره الرازي عند تفسير قوله تعالى: ]... وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون[(3). يجد الرازي ذكر أربعة فصول في أحوال السماوات هي:
الفصل الأول: في ترتيب الأفلاك.
الفصل الثاني: في معرفة الأفلاك.
الفصل الثالث: في مقادير الحركات.
الفصل الرابع: في كيفية الاستدلال بهذه الأحوال على وجود
الصانع. وعقّبه بذكر أحوال الأرض وذكر فيه فصلين هما:
الفصل الأول: في بيان أحوال الأرض، والفصل الثاني في بيان الاستدلال بأحوال الأرض على وجود الصانع وقد استغرق الحديث عن كل هذا قرابة عشرين صفحة من القطع الكبير(1).
ومن مظاهر الإطالة والخروج عن أصل الموضوع ذكر موضوعات بتفاصيلها كما في أحوال الأفلاك والأرض.
وكما في مبحث الحسد، فقد ذكر فيه سبع مسائل: الأولى في ذم الحسد، والثانية في حقيقته، والثالثة في مراتبه، والرابعة في أسبابه، والخامسة في سبب كثرة الحسد وقلته وضعفه، والسادسة في الدواء المزيل للحسد، والسابعة عقاب الحاسد، وقد استغرق الحديث عن هذا ما يزيد على سبع صفحات(2).
5 ـ و الرازي يولي مسألة تناسب الآيات أهمية خاصة حملت السيوطي على القول بأنه:(قل اعتناء المفسرين به لدقته، وممن أكثر فيه الإمام فخر الدين الرازي)(3).
فعند تفسير قوله تعالى: ]أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل...[(4). نقل عن المفسرين أنهم(ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها:
أحدها: أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع فلعلهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم فمنعهم الله تعالى عنها، وبين أنهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة كما أنه ما كان لقوم موسى أن يذكروا أسئلتهم الفاسدة.
وثانيها: لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم: إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمردتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله؛ عن أبي مسلم.
وثالثها: لما أمر ونهى قال: أتفعلون ما
أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟)(1).
6 ـ تطرق الرازي في بعض الموارد إلى توجيه الآيات المتشابهة وهي الآيات المتكررة في القرآن الكريم باختلاف يسير، كاختلاف بحرف أو كلمة أو تقديم أو تأخير، وما شابه ذلك من الأمور التي ذكرها أصحاب علوم القرآن(2)، ففي قوله تعالى: ]وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما[(3).
(لقائل أن يقول: إنه تعالى قال هاهنا ]... وكلا منها رغدا...[ وقال في الأعراف: ]... فكلا من حيث شئتما...[(4). فعطف(كلا) على قوله ?اسكن? في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء، فما الحكمة؟
والجواب: كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى ?وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا..?(5).
فعطف(كلوا) على(ادخلوا) بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخلوها فإنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده، يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف: ]وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم...[(6). فعطف(كلوا) على قوله(اسكنوا) بالواو دون الفاء لأن(اسكنوا) من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده، لأن من دخل بستانا قد يأكل منه وإن كان مجتازا، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء.
إذا ثبت هذا فنقول: إن(اسكن) يقال
لمن دخل مكانا فيراد منه؛ إلزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه، ويقال لمن لم يدخل: اسكن هذا المكان، يعني أدخله واسكن فيه. ففي سورة البقرة هذا الأمر إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار. وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو، وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قبل أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم أن ورد بلفظ الفاء والله أعلم)(1).
7 ـ والرازي مولع بذكر الآراء المختلفة في الآية، وهو يسعى دائما لسرد الآراء التي ذكرها المفسرون في الآية، ولسنا بحاجة إلى ذكر مثال لهذا فتفسيره طافح بذكر الآراء المختلفة.
والملاحظ في الآراء التي يسردها الرازي ما يلي:
1 ـ قد يعقب على هذه الآراء بأنه لا حاجة إلى بيانه(الاختلاف في الآراء) لأنه لا يتوقف على عدم معرفته قصور في فهم النص القرآني، فبعد أن ذكر اختلاف المفسرين في نوع الشجرة التي نهي آدم عن أكلها قال:(واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين فلا حاجة أيضا إلى بيانه، لأنه ليس المقصود من هذا الكلام أن يعرفنا عين تلك الشجرة، وما لا يكون مقصودا في الكلام لا يجب على الحكيم أن يبينه)(2).
2 ـ لا يكتفي الرازي في كثير من الموارد بذكر الآراء بل يعقب عليها بما يراه أو ـ بعبارة أخرى ـ يعطي رأيه في المسألة، فينتخب رأيا ويرد آخر(3).
وقد يسأل سائل فيقول: إن الفخر الرازي لا يختلف عن الطبرسي والبغوي في ذكر آراء
السلف كابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم، فلم يعد تفسيره تفسيرا بالرأي في حين يعد تفسير الطبرسي والبغوي تفسيرا أثريا مع أن الطبرسي كثيرا ما ينقل عن أبي هاشم والبلخي والفراء والزجاج وغيرهم؟
والجواب على هذا: أن الرازي يختلف عن غيره في أنه ـ وإن ذكر آراء القدامى في التفسير ـ يذكر ما يرتأيه في أغلب الموارد. وقد يحمل النص القرآني رأيه، بنحو قد يدفعه إلى التناقض في أقٌواله. فعند تفسيره قوله تعالى: ]...وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم...[(1) أقام الدنيا ولم يقعدها ليثبت أنه لا يجوز الخوض في تأويل ما لا يمكن حمله على ظاهره، ولولا خوف الإطالة لذكرنا نص كلامه ليتبين القارئ الكريم مدى سعي الرازي إلى إثبات ذلك، ويطالعنا بعد ذلك تفسيره قوله تعالى: ]الرحمن على العرش استوى[(2) ذكر كلاما طويلا ذا فروع في أنه لابد من المصير إلى التأويل)(3). ويبدو أن الرازي عندما تناول قوله تعالى: ]...وما يعلم تأويله إلاّ الله...[ كانت نصب عينيه آراء المفسرين في ذلك ومنها رأي الاشاعرة فاتخذ ذلك الموقف، وعندما تناول الآية الثانية تناولها وهو مفسر يتذوق النص القرآني، لهذا قال ما قال، والأمر الملفت للنظر أنه ـ في المورد الثاني ـ ناقش من توقف في التأويل ورد قوله بإسهاب.
ولأجل كل هذا عد تفسيره تفسيرا بالرأي.
8 ـ والرازي يسعى في كثير من الموارد إلى توجيه ما يراه إشكالا على ظاهر نظم القرآن
في نظر بعض الناس(1). وقد يشغل نفسه بما هو في غنى عنه لتوجيه ظاهر نظم القرآن(2).
9 ـ والقصص القرآني لم يذكر في تفسير الرازي إلاّ مختصرا، أو للرد عليه، وبعبارة أخرى أن الرازي لم يعر القصص القرآني أهمية خاصة ن فهو وإن نقل عن وهب بن منبه الذي هو من أبطال الروايات الإسرائيلية لكنه لا يسترسل في ذلك(3).
ومن مظاهر عدم تأكيده على القصص التي ذكرت في توضيح بعض آيات القرآن ما علق به على أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: ]وشروه بثمن بخس...[(4).
(واعلم أن شيئا من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن، ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله لا يتوقف على شيء من هذه الروايات، فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها)(5).
10 ـ إن لأسباب النزول ـ في تفسير الرازي ـ محلا شاخصا ومكانة خاصة، فهو لا يألو جهدا في ذكر أسباب النزول وإن تعددت الروايات فيها(6)، ويؤخذ عليه في ذلك أنه لم يتحر الدقة في نقله، ولم يعقب على ما يحتاج منها إلى نقد، إلاّ في موارد نادرة في مقابل بعض الفرق الإسلاميّة.
ولعل ما نقله عند تفسير قوله تعالى: ]وإذا سألك عبادي عني فإني قريب...[(7)، من أن أحد الأقوال في سبب نزولها؛ سؤال موسى ربه خير دليل على ما نقول: فهل يعقل أن يكون
ما قاله موسى عليه السلام سببا لنزول آية على نبينا (صلى الله عليه وآله)؟(1)
بعد أن أتم الطبرسي(ت 548هـ) تأليف كتابه في التفسير «مجمع البيان» عثر على كتاب «الكشاف» للزمخشري(ت 538هـ) فاختصره في كتاب أسماه «الكاف الشاف» كما قال في مقدمة كتابه «جوامع الجامع»(2)، ثم طلب منه ولده أبو نصر الحسن بن الفضل بن الحسن الطبرسي أن يجرد من الكتابين «الكشاف»و«مجمع البيان»«كتاباً ثالثاً يكون مجمع بينهما ومحجر عينهما يأخذ بأطرافهما، ويتصف بأوصافهما ويزيد بأبكار طرائف وبواكير لطائف عليهما، فيتحقق ما قيل: أن الثالث خير، فإن الكتب الكبار قد يشق على الشادي حملها ويثقل على الناقل نقلها»(3).
وقد استعفاه الطبرسي في ذلك فأصر ولده عليه فلم يجد بدا من إجابة ذلك، فشرع في كتابة كتاب أسماه(جوامع الجامع) وقد أتمه في اثني عشر شهرا بعدد نقباء موسى عليه السلام وخلفاء النبي (صلى الله عليه وآله). وكان ابتداؤه يوم السبت الثامن عشر من شهر صفر سنة 542 هـ وانتهاؤه في محرم سنة 543 هـ(4).
والذي يهمنا هنا قبل الدخول في الموضوع أن عبارة الطبرسي(أما بعد فإني لما فرغت من كتابي الكبير في التفسير الموسوم بمجمع البيان لعلوم القرآن، ثم عثرت من بعد بالكتاب الكشاف لحقائق التنزيل لجار الله العلامة) يدل دلالة واضحة أنه أثناء تأليفه مجمع البيان لم يشاهد الكشاف، ولم يطلع عليه. وإنما رآه بعد إتمام تأليف مجمع البيان؛ ولكني عثرت أثناء
مطالعتي مجمع البيان على ثلاثة نصوص مقتبسة من الكشاف صرح فيها الطبرسي بنسبتها إلى الزمخشري(1).
ويبدو أن الطبرسي بعد اطلاعه على الكشاف وإعجابه به اقتبس منه هذه النصوص الثلاثة وضمنها كتابه بعد أن أتمه. أو أن هذه النصوص الثلاثة سقطت إليه من الكشاف بواسطة شخص آخر كتلميذه ابن شهرآشوب المازندراني(ت 588 هـ) الذي تتلمذ للزمخشري أيضاً ويمكن تلخيص طريقة الطبرسي في هذا الكتاب مع رعاية الاختصار بما يلي:
1 ـ إن الكتاب تلخيص لكشاف الزمخشري أكثر من أن يكون جمعا بين فوائد الكتابين، أي إذا حاولنا تحليل عبارات الطبرسي في «جوامع الجامع» وجدنا أكثرها اختصار عبارات الزمخشري، وليس فيه مما في «مجمع البيان» إلاّ القليل بالنسبة إلى ما أخذ عن الكشاف ففي قوله تعالى: ]في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا...[(2). قال(استعير المرض لإعراض القلب، كسوء الاعتقاد والغل والحسد وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض، كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك، والمراد به هاهنا ما في قلوبهم من الكفر أو من الغل والحنق على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين...)(3).
وهذا النص قريب جدا مما جاء في الكشاف باختصار بعض الجمل(4).
ولو أردنا إيراد عبارة الطبرسي من مجمع البيان إضافة إلى عبارة الزمخشري في الكشاف
لطال بنا المقام، وخرج الأمر إلى حد الملل.
وهذا لا يعني أن الطبرسي لا يضيف من مجمع البيان شيئا، بل ينقل بعض ما ذكره هناك وأكثر ما يكون ذلك في نقل أقوال أئمة أهل البيت عليهم السلام. فقد ذكر أن المراد من قوله تعالى: ]... وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم...[(1). «أي الثابتون في العلم الضابطون له المتقنون فيه واختلف في نظمه وحكمه على قولين: أحدهما أن(الراسخون) معطوف على «الله» بالواو على معنى أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلاّ الله وإلا الراسخون في العلم فإنهم يعلمونه... وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام فانه قال: كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنزيل، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله هو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله»(2).
وهذا القول ذكره مختصرا في «جوامع الجامع» «وهو المروي عن الباقر عليه السلام قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل الراسخين في العلم»(3). وهذه العبارة ليست في الكشاف.
2 ـ إن الشيخ الطبرسي قد يذكر في «جوامع الجامع» ما رآه الزمخشري، ولا ينقل ما ذكره هو في «مجمع البيان» ولا يشير إليه. وفي هذا ترجيح لجانب الكشاف. ففي قوله تعالى: ]... لن تراني...[(4). ذكر في «مجمع البيان» أن «لن» تفيد تأبيد النفي(5)، بينما ذكر في «جوامع الجامع» أنها تأكيد نفي المستقبل(6) وهذا كما في الكشاف(7).
وهذا لا يعني أن الطبرسي يتابع الزمخشري في كل ما يذكره، فقد يذكر شيئا مما أورده
الزمخشري في الكشاف ثم يرد عليه كما في مسألة مسح الرجلين.
3 ـ بما أن «جوامع الجامع» جمع فوائد كتابين هما «الكشاف» و«مجمع البيان»، والكشاف ينحو فيه الزمخشري منحى بلاغيا، نرى أثر ذلك في «جوامع الجامع» واضحا بنحو نستطيع معه القول أن اتجاهه فيه بلاغي كالكشاف. وقد يقتصر بحثه في الآية على موضع البلاغة فيها(1).
4 ـ والطبرسي ـ تبعا للزمخشري في الكشاف ـ لا يتناول بالتفسير كل كلمات الآية كما هو ديدنه في «مجمع البيان» بل يقتصر عادة على ما اقتصر الزمخشري عليه في «الكشاف».
5 ـ والطبرسي في «جوامع الجامع» لا يلتزم بذكر ما يسعه جمعه من آراء قيلت في تفسير كلمة أو مقطع أو آية. وهذا على عكس ما نراه في «مجمع البيان»؛ فقد عودنا الطبرسي في «مجمع البيان» على ذكر ثلاثة آراء أو أربعة أو خمسة أو أكثر، بينما لا نلاحظ ذلك في «جوامع الجامع» حيث يقتصر عادة على ما يذكره الزمخشري في الكشاف.
في هذا العدد دراستان تتناولان السنة، الأولى للأستاذ العلامة الشيخ حسن محمد تقي الجواهري، يستعرض فيها دور أئمة أهل البيت في حفظ السنة النبوية. بعد أن يبين معنى السنة، يذكر اتجاه مدرسة أهل البيت في تدوين السنة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وخلص إلى نتيجة هاهة هي إن كل ما يقوله أئمة أهل البيت مرسلا إنما هو عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورثوه مكتوبا أو مشافهة عن آبائهم. ويتناول الباحث مسألة هامة ترتبط بسبب عدم وجود أحاديث «الجامعة» المروية عن أهل البيت في صحاح أهل السنة ومسانيدهم بعد ذلك يتطرق إلى شبهة القائلين بأن الأئمة مشرعون وينفي هذه التهمة. ويبين الفرق بين أئمة آل البيت وغيرهم من أئمة المذاهب الإسلاميّة. ويستدل على أن مدرسة الشيعة الإمامية لا يمكن تسميتها مذهبا في مقابل المذاهب، لأنها تعبير عن واقع الإسلام من أصفى منابعه.
والدراسة الثانية تدور حول الأحاديث المشتركة في الطلاق والظهار واللعان للأستاذ عبد الحميد الطالبي. ودراسته تأتي ضمن توجه المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة بشأن جمع الأحاديث المشتركة بين أهل السنة والشيعة في مجالات الحياة الفردية والاجتماعية. وبعد أن يذكر أنواع الاشتراك، يستعرض الأحاديث المشتركة في مجالات الطلاق، ثم الظهار، ثم اللعان، وهذا المجال المحدود من المقارنة يبين كثرة المشتركات بين الروايات. ومن المؤكد أن هذه المقارنات لو استوعبت المجالات الحياتية الكبرى لظهرت المشتركات أكثر.
1 ـ التفسير الكبير 3 : 236.
1 ـ التفسير الكبير 3 : 170، 6 : 112، 7 : 144.
1 ـ التفسير الكبير 3 م 120.
1 ـ التفسير الكبير 3 : 4، وانظر كذلك 15 : 34.
1 ـ التفسير الكبير 1 : 36.
1 ـ آل عمران :7.
1 ـ جوامع الجامع 1 : 21.
1 ـ التفسير الكبير 5: 94.
1 ـ البقرة : 6.
1 ـ التفسير الكبير 2 / 52 ـ 53.
1 ـ التفسير الكبير 4: 180 ـ 201.
1 ـ البقرة : 70.
1 ـ حذفنا بعض الاستشهادات المطولة المنقولة من مجمع البيان توخيا للاختصار واحلنا القارئ الكريم إلى المصدر(التحرير).
1 ـ مجمع البيان 3 : 259 من الكشاف 1 : 651، ومجمع البيان 2 : 457 من الكشاف 2 : 101؛ ومجمع البيان 4 : 203 من الكشاف 3 : 131.
1 ـ آل عمران: 7.
2 ـ مجمع البيان 1 : 41.
2 ـ جوامع الجامع 1 : 2.
2 ـ التفسير الكبير 12 : 40 ـ 41.
2 ـ أستاذ في جامعة مشهد.
2 ـ البقرة : 10.
2 ـ طه : 5.
2 ـ التفسير الكبير 3: 236 ـ 244.
2 ـ التفسير الكبير 3 : 5 ـ 6.
2 ـ البرهان في علوم القرآن 1 : 145، والإتقان 3 : 390.
2 ـ التفسير الكبير 1 : 68 ـ 71.
2 ـ التفسير الكبير 2 /36 ـ 37.
3 ـ البقرة : 31.
3 ـ التفسير الكبير 22 : 6.
3 ـ البقرة / 164.
3 ـ جوامع الجامع: 1 : 160.
3 ـ التفسير الكبير 3 : 2. وانظر كذلك 7 : 125.
3 ـ جوامع الجامع: 1 : 20.
3 ـ الإتقان 3 : 369.
3 ـ التفسير الكبير 18 : 87.
3 ـ جوامع الجامع 1 : 2 ـ 3.
3 ـ البقرة : 35.
4 ـ التفسير الكبير 2 : 175 ـ 208.
4 ـ الأعراف: 143.
4 ـ الكشاف: 1 م 175.
4 ـ جوامع الجامع : 557 (الطبع القديم).
4 ـ البقرة : 108.
4 ـ الأعراف : 19.
4 ـ يوسف : 20.
5 ـ البقرة : 58.
5 ـ التفسير الكبير 18 : 109... وانظر كذلك 18 : 120.
5 ـ مجمع البيان 2 : 474.
6 ـ جوامع الجامع 1 : 468.
6 ـ الأعراف : 161.
6 ـ التفسير الكبير 12 : 26، 5 : 94.
7 ـ البقرة : 186.
7 ـ الكشاف 2 : 113.